» المهدي عجل الله فرجه رحمة الله الواسعة (2)   » باب الله (1)   » خطبة عيد الفطر المبارك لعام 1445 هجرية   » حقيقة الإيمان   » ماذا نهدي لإمام زماننا عجل الله فرجه الشريف   » القوم والعشيرة   » الخدم و المماليك   » صلة الأرحام   » إمام زماننا عليه السلام ميزان أعمالنا   » بر الوالدين (3)  


09/06/2011م - 8:22 ص | عدد القراء: 6721

أمير السيف والقلم.. مقال مقتطع من مقدّمة كتاب شرح شافيّة أبي فراس الحمداني

أبو فراس الحمداني
أمير السيف والقلم

مقال مقتطع من مقدّمة كتاب شرح شافيّة أبي فراس الحمداني

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطّاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين 

لمَّا ضعف أمر الخلافة العباسية وتزعزع حالها في شطر عمرها الأخير ، حتى بلغ الأمر غايته في زمن الراضي [1] ، فكانت فارس في يد علي بن بويه ، والري وإصفهان والجبل في يد أخيه الحسن بن بويه ، ومصر والشام في يد محمَّد بن طغج ، ثمّ في أيدي الفاطميين ، والأندلس في يد عبدالرحمن بن محمَّد الأموي ، وخراسان والبلاد الشرقيَّة في يد نصر بن أحمد الساماني ..

أتمَّ بنوحمدان سيطرتهم على الموصل وديار بكر وديار ربيعة ومضر  ـ فكانو هم الأمراء ، وبنو العبّاس الخلفاء ، وبنو بويه السلاطين ـ وكان بدء تأسيسهم للدولة الحمدانية في زمن المكتفي بالله العباسي ، ـ وبالدقّة سنة 292هـ ـ ، وانتهاء دولتهم في زمن المطيع لله سنة 380 هـ ، وبين هذا وذاك ـ أي عمر الدولة الحمدانية ـ كانت خلافة : المقتدر بالله ، والقاهر ، والراضي بالله ، والمتقي لله ، والمستكفي .

وهي دولة عربية ملكت الموصل والجزيرة والشام وتلك الأعمال ، وعظم سلطانها ، وينتسب حكامها إلى قبيلة تغلب بجوار الموصل ، وينتهي ملوكها إلى حمدان بن حمدون بن حارث بن لقمان بن أسد العدوي التغلبي .. ولحمدان شأن كبير في أخبار تلك الديار ، وكان قد استولى ابنه محمّد بن حمدان على ماردين فأخرجه منها الخليفة المعتضد ، وتولى أخوه أبو الهيجاء بن حمدان أميراً على الموصل وما يليها سنة 292 هـ ، واشتد ساعده ، فكان أوَّل ملوك الحمدانيين ..

فزادت قوّة الحمدانيين في ذلك الحين ، وصاروا دولة ؛ حكم منها أربعة أمراء في الموصل ، وخمسة في حلب ، حتى خرجت الموصل منهم إلى البويهيين سنة 380 هـ ، وكان سعد الدولة أبو الفضل وولداه آخر ملوك الدولة الحمدانيّة . واستولى الفاطميون على حلب سنة 394 هـ . وكان أشهرهم في نصرة العلم والأدب سيف الدولة أبو الحسن علي صاحب حلب ، الذي حكم من سنة 333 إلى 356 هـ .

وكان سيف الدولة أديباً شاعراً ، نـقّاداً للشعر ، يحب جيِّده ويطرب لسماعه ؛ وكان يُقرب الشعراء وأهل الأدب ، حتى قيل أنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك ـ بعد الخلفاء ـ ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر .. وكان يجالس الشعراء وينتقد أشعارهم نقداً يدل على شاعرية وعلم ، ويبذل لهم الجوائز السنية . وأخباره مع المتنبي مشهوره ، وكذلك مع السري الرفاء ، والنامي ، والببغاء والوأواء ، وتلك الطبقة .. وفوق كل هؤلاء أبوفراس ، الذي كان سيف الدولة يهتز لشاعريته طرباً ، وتميس نفسه له إعظاماً ، مُجلاً فيه تلك الملكات التي قلَّ أن تجتمع في فرد ، ومُكبراً تلك السجايا العظيمة التي يندر أن تُزيِّن أخلاق الأمراء ، من الكمالات والمحاسن ؛ فلعمري كانت نفسه بوتقة تُقلُّ تلك القمم المتساوية من المكارم العلية والفضائل السنيّة ..

أبو فراس الحمداني
الأمير أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني التغلبي ، مفخرة الحمدانيين ، ومظهر فتوتهم وآدابهم . ولد سنة 320 هـ ، وقيل 321 هـ ، ويتعين الأوّل ، لما حكاه ابن خالويه عن أبي فراس أنه قال له : إن في سنة 339 هـ كان سنِّي 19 سنة .  كان فارس ميدان العقل والفراسة ، ومبارز مضمار الرءاسة والسياسة ، عين أعيان ملوك الزمان ، وشاح محامد آل حمدان ، محله من الأدب لايخفى ، وشمعة فضله كالصبح لاتقط ولاتطفى ، وبالشجاعة غضنفر عصره ، وشعره حسنا وجودة  وسهولة وجزالة وعذوبة وفخامة وحلاوة ؛ فريد دهره  ..
قال الثعالبي : كان فرد دهره ، وشمس عصره  أدبا وفضلا وكرماً ونبلاً  ومجدًا وبلاغةً وبراعةً وفروسيةً وشجاعة .
ولربما يرتج القول في المترجم وأمثاله ، فلا يدري القائل ماذا يصف ، أيطريه عند صياغة القول ؟ أو يكبره عند قيادته العسكر ؟ وهل هو عند ذلك أبرع ؟ أم عند هذا أشجع؟ وهل هو لجمل القوافي أسبك ؟ أم لأزمّة الجيوش أملك ..
والخلاصة : أن الرجل بارع في الحالتين ، ومتقدم في المقامين ، جمع بين هيبة الملوك وظروف الأدباء ، وضم إلى جلالة الأمراء لطف مفاكهة الشعراء ، وجُمع له بين السيف والقلم ..

فهو حينما ينطق بفم ، كما هو عند ثباته على قدم ، فلا الحرب تروعه ، ولا القافية تعصيه ، ولا الروع يهزمه ، ولا روعة البيان تعدوه .. فلقد كان المقَدَّم بين شعراء عصره ، كما أنه كان المتقدم على أمرائه ، وقد تُرجم بعض أشعاره إلى اللغة الألمانية كما في دائرة المعارف الإسلاميَّة . وكان ابن عمه أبوالحسن علي سـيف الدولة ـ أمير الأمراء ـ ابن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان  ملك حلب ـ لوفور فضائله وعلو همته وحسن مائله ـ يستخلفه في البلاد ويقدِّمه على أهل بيته من الأجواد ويصحبه معه في الغزوات .

وكان يُعجَب جدا بمحاسنه  ويميِّزه بالإكرام على سائر قومه  ويصطنعه لنفسه ، ويصطحبه في غزواته ، ويستخلفه على أعماله ؛  وأبوفراس ينثر الدر الثمين في مكاتباته إياه ، ويوافيه حق سؤدده ، ويجمع بين أدبي السيف والقلم في خدمته .. وكان عضداً وساعداً قويَّاً لسيف الدولة يصول به ، ويستعرض فيه جميع خصال الشرف والكمال من الحزم والفروسيَّة والشاعرية والأدب وغيرها ، وكان سيف الدولة من أبعد ملوك آل حمدان صيتاً ، وأكثرهم غزواً ، وأبذخهم مجداً ، وأفضلهم علماً وأدبا ..


الأمير الفارس
لاغرو أن يُنسب لأي قائدٍ سياسي ظفرٌ عسكريٌ مزخرفُ ، أو بطولات مزعومة لا أصل لها ولم  تكن لتظهر لولا ألسنة المرتزقة والمحتالين  ؛ ولكن ..

كل من يدَّعي ما ليس فيه
كذَّبته  شواهد  الإمتحـان

فلقد أثبت الأمير أبو فراس كونه أميراً قائداً فارساً في حين سيطرته على سائر خصاله العملاقة ، مما حدا بابن عمِّه سيف الدولة أن يلقي عليه ثقله ، ويوكل أمور الحرب إليه ، وينيط به قيادة العسكر . فأبدى من البسالة ما يُحقُ كونه أميراً للسيف فضلاً عن القلم ؛ وإذا ما جلت بناظريك في قصيده الرائع فلن تخالفنا هذه الحقيقة أو تحيد عمّا قررناه ؛ ومن ذلك قوله :

بدولـة سيف الله طلنا على الــورى
و  في  عزِّه صلنا على من  تجــبرا
حملنا  على  الأعداء  وسط   ديـارهم
بضربٍ  يُرى  في  وقعه  الجوُ  أغبرا
فســائل  كلاباً  يوم غزوة  بـالـسٍ
ألـم  يتركوا  النسوان في القاع  حُسَّرا
و   سائل   نُميراً   يوم   سار    إليهم
ألم   يوقنوا  بالموت  لمَّا   تـنـمَّـرا
وسائل   عُقيلاً   حين  لاذت   بتدمـر
ألم    نُقرها    ضرباً   يقدُ    السنوَّرا
و  سائل  قُشيراً حين جفَّت حُلوقُـهـا
ألم   نسقها  كأساً  من  الموت   أحمرا
و   فــي  طيِّئٍ  لمَّا  أثارت   سيوفُه
كُماتُهم  مرأى  لمن  كان   مبصــرا
و  كلبٌ  غداة  استعصموا  بجبـالهـم
رماهم   بها  شُعثاً  شوازب   ضمَّـرا
فأشبع    من    أبطالهم    كلَّ    طائرٍ
وذئبٍ   غدا   يطوي  البسيطة   أعفرا


ولربما ليس من الميسور تسنِّي مكارم الخصال وعظيماتها في شخصية واحدة ، فالشاعرية المرهفة ، والحس الرقيق قد تنافر ـ في بدء النظر ـ الفروسيَّة والسطوة في الحرب ، ومعلوم أن هذه الخصال ليست لتجتمع في شخص إلا أن يكون فرداً ومميَّزاً . فمن قشائب خرائده التي تقطر رقةً وحسَّا :

عليَّ لربــع العامريـة  وقـفــةٌ
تُمــلُّ  عليَّ الشـوق والدمع  كاتبُ
فلا   وأبي   العشاق  ما  أنا   عاشق
إذا  هي لم تلعب بصبري الملاعـبُ
و من مذهبي حُبُ الديــارِ لأهلهـا
و   للناس   فيما  يعشقون  مذاهـبُ
عتــادي  لدفـع الهم نفسٌ أبيَّــةٌ
وقلبٌ  على  ما  شئتُ منه  مصاحبُ
تكاثر  لوَّامي  على مــا  أصـابني
كــأن  لم  تكن إلا لأسري  النوائبُ
يقولون  لم  ينظر  عواقب   أمــره
ومثلي   من  تجري  عليه   العواقب
 

الأمير الأسير
لقد خاض أميرنا الشاعر حروبا جمة مع الروم ، وقد ألحق بها شر الهزائم المنكرة ، هذا مع كونها قوة لها مقومات الغلبة ، مما يعكس قدرة الأمير العسكرية الفائقة ، وقد قيل " لكل جواد كبوة " ، و الحرب كر وفر ، وربما أسر وهو مالم ينج أميرنا منه ، مع كونه قد اختار مرّ الأسر على ذل الفرار ، وهو قوله  :

وقال   أصيحابي   :   الفـرار   أو   الردى   ؟
فقلت   :   هما   أمران  أحـلاهمـا   مـــر
و   لكـنـني   أمضي   لمــا   لا    يعـيبني
وحسبك     من     أمرين     خيرهما     الأسرُ
ولا  خيـر  في  رد  الــردى  بـمـذلـــة
كمــا   ردّهــا   يوما   بسوءتـه    عمـرو
ولو   ســد   غيري   ماسددت   اكـتفوا    به
وماكان     يغلى    التبر    لو    نفق     الصفر
سـيفقدني   صحبـي  إذا  جــدّ   جـدهــم
وفي    الليلة    الظلمــاء   يفتقـد   البــدر
ونحــن أنـاس لا تـوســط عنــدنـــا
لنـــا   الصدر   دون   العالمين   أو  القـبر
تهــون  علـينـا  فـي  المعالي  نفوسـنــا
ومن   يخطب   الحسناء   لم  يغلـه   المـهـر
 

فالمرة الأولى : بمغارة الكحل في سنة ثمان وأربعين وثلاثماءة وما تعدّوا به خرشنة  ـ وهي قلعة ببلاد الروم ، والفرات يجري من تحتها ـ ، وفيها يقال : إنه ركب فرسه وركضه برجله ، فأهوى به من أعلى الحصن إلى الفرات ، والله أعلم ..
والمرة الثانية : أسرته الروم على منبج ـ وكان متقلداً بها ـ في شوّال سنة 351 أُسر وهو جريح ، وقد أصابه سهم بقي نصله في فخذه ، وحُمل مثخناً بخرشنة  ، ثمّ إلى القسطنطينية ، وأقام في الأسر أربع سنين لتعذر المفاداة ..
ثمّ استفكّه من الأسر سيف الدولة سنة 355 هـ .

قال ابن خالويه : قال أبوفراس : " لمَّا حصلت بالقسطنطنية أكرمني ملك الروم إكراما لم يكرمه اسيراً قبلي ، وذلك أن من رسومهم أن لا يركب أسيرٌ في مدينة ملكهم دابة قبل لقاء الملك ، وأن يمشي في ملعب لهم يُعرف بالبطوم مكشوف الرأس ، ويسجد فيه ثلاث سجدات أو نحوها ، ويدوس الملك رقبته في مجمع لهم يُعرف بالتوري .. فأعفاني من جميع ذلك ، ونقلني من لوقة إلى دار ، وجعل لي برطسان يخدمني ، وأمر بإكرامي ، ونقل من أردته من أسارى المسلمين إلي ، وبذل لي المفاداة مفرداً " .
وقد كانت تصدر أشعاره في الأسر والمرض ، عن صدر حرج ، وقلب شجٍ ، فتزداد رقة ولطافة ، تُبكي سامعها ، وتعلق بالحفظ لسلاستها ، فكانت بحق خيرة أشعاره ، وهي التي تسمى بـ " الروميَّات " .

الأمير الشاعر
لقد راج سوق الأدب في أيام سيف الدولة رواجاً باهراً ، وقصده الشعراء ومدحوه ، وأحسن جوائزهم ، وكان من شعرائه المتنبي والسري الرفاء والنامي والزهي والببغاء والوأواء الدمشقي وأبو عثمان الخالديان ..
وفوق كل هؤلاء أبو فراس الذي كان سيف الدولة يهتز لشاعريَّته طرباً ، وتميس نفسه له إعظاماً .. وكان شعر الأمير أبي فراس مشهور سائر بين الحسن والجودة والسهولة والجزالة والعذوبة والفخامة والحلاوة والمتانة ، ومعه رواء الطبع وسمة الظُرْف وعزَّة الملك ..  ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبدالله بن المعتز ، وأبو فراس يُعد أشعر منه عند أهل الصنعة ونَقَدَة الكلام ..

وكان الصاحب بن عبَّاد  يقول : بدء الشعر بملك وختم بملك ـ يعني أمرء القيس وأبا فراس ـ  ..
وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز ويتحامى جانبه ، فلا ينبري لمباراته ولا يجترئ على مجاراته ، وإنما لم يمدحه ومدح مَنْ دونه من آل حمدان تهيبا له وإجلالا لا إغفالا وإخلالا .
فمن شعره واصفاً نساء السـبي :

وخريدة  كرمت عـلـى  آبـائـها
وعلى   بوادر   خيلنا   لم   تكـرم
خطبت  بحد  السيف  حتى  زوجت
كـرهـا  وكان صداقها  للـمقسـم
راحت  وصاحبها  بـعرس  حاضر
يـرضى الإلـه وأهلها في مأتــم

الأسير الشاعر
لقد أدركته حرفة الأدب ، وأصابته عين الكمال ، فأسرته الروم في بعض وقائعها ، فازدادت رومياته لطافة ؛ فمُسَلَّم إشتعال قريحة الشاعر عند الحدث المؤثر على نفسه وروحه ، وتختلف هذه المؤثرات من شاعر لآخر ..
فالأمير القائد تضجره الهنة والضعف ، والحر الكريم يؤذيه الأسر ، وهكذا فالبطل الفارس الجوَّال يحبس أنفاسه القيد و السجن ، كما أن ذل الفقر داهية الغني العزيز .. هذه وأخرى غيرها تراكمت مجتمعة على صفحة روح أميرنا الشاعر ليبدي ما جاشت به أنفاسه وجادت قريحته ونفث به صدره  ، ويفصح عن قمة الشاعرية وذروة الإرهاف والرِّقة ، فكانت رومياته في الأسر درر في جواهر نظمه ، ونجوم في سماء شعره ، سمتها الشجاء والحنين ، والصدق في التعبير ، مضافاً إلى سلاسة الأسلوب وإتقان الصورة وإبداع المنظر ، فمنها ماقاله وقد سمع حمامة تنوح بجنبه على شجرة عالية :

أقول  وقد  ناحت  بقربي   حمامـــة
أيـا  جارتـى هل تشـعرين  بحالـي
معاذ   الهوى  ماذقت  طارقة   النـوى
ولاخطـرت   منـك   الهمـوم   ببال
أتحمــل  محزون  الفــؤاد  قـوادم
على    غصنٍ   نائي   المسافة    عال
أيا  جارتى  ماأنصف  الدهر   بيننــا
تعالي   أقاسـمك   الهمـوم    تعالـي
تعالي تـري روحـا لـدي ضعيفــة
تردد   في   جســم   يُــعذب   بال
أيـضحـك   مأسور   وتبكي    طليقة
ويـسكت    محزون   ويـندب   سال
لقد   كنت   أولى   منكِ   بالدمع   مقلة
ولكن   دمعـي   في  الحوادث  غـال

ولربما يواجه أميرنا الشاعر محنة تظاهر محنة الأسر ، وتشعل في صدره ما يُنسي جراح غربته ، ذلك ما كان من صدود ابن عمِّه سيف الدولة وإعراضه عن فدائه ، مما ينطلق به ليرتاد نمطاً إبداعياً جديداً في الشعر ، ألا وهو العتاب المر واللوم الرقيق المتقن ، العاكس عن نفسه العملاقة وروحه الكريمة .. ولعل هذا النمط الأخير هو أجود ماصدر من رومياته العصماء ، ذلك لما فيها من روعة منقطعة النظير ، التي يقتنص فيها فرص التحنن ، فيصب الشجا والمظلمة والحنين في أنقى قالب وأبدعه ، فلا يرى القارء نفسه إلا أسيراً لدموع ذلك الأسير ، مجيباً لآهات الشجي المكثور لعظم فداحة الوصف وسحر البيان ..

ومنه قوله لسيف الدولة ، لمَّا بلغه أن أمه ذهبت من منبج إلى حلب تكلم سيف الدولة في المفاداة فردَّها خائبة :

أنت    سحاب    ونحن     وابله
أنـت  يمـين  و  نحن  أنملهـا
بـأي   عـذر   رددت   والهـةً
عليك    دون    الورى    معوُّلها
جاءتك    تمتاح    ردَّ    واحدها
ينتظر    الناس    كيف    تقفلها
سمحت   منِّي  بمهجـة   كرمت
أنت    على    يأسها     مأملهـا
إن   كنت   لم  تبذل  الفداء   لها
فلم   أزل   في   رضاك   أبذلها
تلك   المودات   كيف    تهملهـا
تلك   المواعيـد  كيـف   تغفلها
تلك   العقود   التي   عقدت   لنا
كيف    وقد    أُحكمت     تُحللها
أرحامنا     منك    لِمْ     تقطعها
ولـم   تزل   دائبـا   توصلهـا
أيـن  المعـالي التي عُرفت  بها
تقولهـا    دائمـاً   و    تفعلهـا
ياواسع    الدار   كيف    توسعها
و   نحن   في  صخرة   تزلزلها
يا   ناعـم   الثوب  كيف   تبدله
ثيابنا   الصوف   ما    نبدلهــا
ياراكب  الخيل  لو  بصرت   بنا
نحمــل   أقيادنا   و    ننقلهـا
رأيت  في  الضر  أوجهاً  كرمت
فارق   فيك   الجمال    أجملهـا
قـد أثّـر الدهـر في محاسنهـا
تعرفهـا   تـارة   و    تجهلهـا
فلا    تكلنا   فيها   إلى    أحـد
مُعلهـا  محسنــاً   يُعـلـلهـا
لا   يفتـح  الناس  باب   مكرمة
صاحبهـا  المستَغـاث   يقفلهـا
أينبري    دونك   الكرام    لهـا
و   أنـت   قمقامها   و   أحملها

وقال في جواب له على عتاب سيف الدولة له ـ وفيه يبدوا انثيال الوشاة للقول فيه عند ابن عمه حتى ثلموا تلك المودة وعللَّوها ، مما أظهر الجفاء وأخَّر عنه الفداء ـ :

زماني   كلـه   غضبٌ  و   عتبُ
و  أنت  عليَّ  و الأيــام  إلـبُ
و   عيش   العالمين   لديك   سهلٌ
وعيشي    وحده   بفناك    صعبُ
وأنت   وأنت  دافـع  كل  خطبٍ
مــع الخطب الملم عـليَّ خطبُ
إلى   كم  ذا  العقاب  وليس  جرمٌ
وكـم  ذا  الإعتذار  وليـس  ذنبُ
فلا   بالشام   لــذَّ   بفيّ   شربٌ
ولا   في  الأسر  رقَّ  عليَّ   قلبُ
فلا   تحمل   على   قلب    جريح
بــه    لحوادث    الأيام    ندب
أمثلي   تُقبَـلُ   الأقـوال   فيـه
و   مثلك   يستمر   عليـه   كذب
 

بهذا الشجاء المركانت تتدفق عتاباته من أعماق صدره الشجي المثلَّم طلباً للعفو والفدو ، ومن الواضح الجلي أن روح الإستعطاف هذه لا تشبه أميرنا الشاعر ولا تمت له بصلة من قريب ولا بعيد ، والمسلَّم أنه لم يصدر عنه ذلك إلا لغاية مدفونة في نفسه تتأجج فتلهب صدره ليكرر عتاباته هذه ، وذلك وفاءاً منه لأمه الولهى عليه ، وبراً بها وعطفا ، حيث أنه وحيدها ، ولولا الفكرة فيها لما قبلت روحه العالية أدنى استجداء واستعطاف من أي أحد كان .. وهذا ما كان قد قرّره ، في قوله :

لـولا  العجـوز   بمنبِج
ماخفت  أسباب   المنيَّـه
و  لكان  لي  عمَّا   سألـ
ـت من الفدا نفسٌ أبيّـَه
لكـن    أردتُ    مُرَادها
و  لو انجذبتُ إلى  الدنيّه


وفاته
ولمَّا أطلق سراح الأمير الشاعر من الأسر وعاد إلى وطنه وأقام مدَّة فيه ، مات سيف الدولة ، فعزم أبو فراس على التغلب على حمص وتطلع إليها ، وكان مقيما بها ، فاتصل خبره إلى ابن أخته أبي المعالي إبن سيف الدولة ، وغلام أبيه قرغويه ، وجرت بذلك بين أبي فراس وأبي المعالي وحشة .. فطلبه أبو المعالي فانحاز أبو فراس إلى صدد ، وهي قرية في طريق البرِّية عند حمص ، فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم وسيرهم في طلبه مع قرغويه ، فأدركه بصدد فكبسوه ، فاستأمن اصحابه ، واختلط هو بمن استأمن معهم ، فقال قرغويه لغلام له : أقتله .

فقتله وأخذ رأسه وتركت جثَّته في البريَّة حتى دفنه بعض الأعراب .
وقيل : قتله غلام سيف الدولة ولم يعلم أبو المعالي ، فلما بلغه الخبر شقَّ عليه .
وكان ذلك يوم الأربعاء لثمان من ربيع الآخر . وعن الصابي في تاريخه : يوم السبت لليلتين خلتا من جمادى الأولى سنة 357 هـ .  وكيف كان فإن عمره لم يتجاوز السابعة والثلاثين حين قُتل .
قال ابن خالويه : بلغني أن أبا فراس أصبح يوم مقتله حزيناً كئيباً ، وكان قد قلق في تلك الليلة قلقاً عظيماً ، فرأته ابنته ـ إمرأة أبي العشائر ـ كذلك ، فأحزنها حزناً شديداً ، ثمّ بكت وهو على تلك ، فأنشأ يقول ـ كالذي ينعى نفسه وإن لم يقصد ، و هذا آخر ماقاله من الشعر ـ :

أبـُنَـيَّــتي لا  تحـزنــــي
أبـُنَـيَّــتي صـبراً جميـــلا
نوحــي     علــيَّ      بحسرة
قــولــي    إذا    ناديـتــني
زين      الشباب      أبو       فرا





 

كل      الأنام     إلى      ذهـاب
للجليـل       من       المصـاب
من    خلف    سترك     والحجاب
فعييت     عن     رد      الجواب
س     مــا     تمتَّع     بالشباب

وهكذا تُطوى تلك الصفحة المشرقة المعطارة من تاريخ العرب ، لتنتهي حياة الأمير الفارس الشاب ، الذي جمعت له يد الغيب خصاله فأبدعتها ، وصنع بيديه ولسانه مجداً أثيلاً خالدا ، بعيداً عن الزيف والتصنع ، إذ لم يترهل كغيره على حرير النمارق ، ولم يستعمل بطر الأمراء ، ولا تعاطى الفساد والمجون ، بل رسم له شعرُه صورةً راقية مُثلى ، مُخفاً بنفسه إلا عن المكارم ، وليُخلف له جميل الأثر والثناء ، فعليه رحمة الله .

  


 

المصادر
الثعالبي : يتيمة الدهر ج1
ابن خلكان : وفيات الأعيان ج2 و3
جرجي زيدان : تاريخ آداب الله العربية
ابن منظور : تاريخ مختصر دمشق ج2
إبن الطقطقا : الفخري في الآداب السلطانية
إبن خالويه : ديوان أبي فراس
دائرة المعارف الإسلامية ج1
البستاني : دائرة المعارف ج2
الزركلي : الأعلام
أمير الحاج : شرح الشافية  ( مخطوط نعمل على تحقيقه )


[1] هو أبو العبّاس أحمد بن المقتدر بن المعتضد ، الملقّب بـ " الراضي " ( 322-329 هـ )

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقعالتعليقات «1»

08/08/2011م - 7:31 ممحمد كاظم - الكوفة المقدسة
بارك الله بك يا شيخنا الجليل ويكل خدام المنبر الحسيني



اسمك:
بريدك الإلكتروني:
البلد:
التعليق:  
عدد الأحرف المتبقية: